بەرزان حەمەسور
تحقيق خاص
في عالم السياسة، لا تُشنّ كل الحروب بالقنابل، ولا تُحتل الأراضي بالدبابات فقط، بل أحيانًا، يتم الاستيلاء على الحقوق بموافقة أصحابها أنفسهم – دون أن يدركوا أنهم وقعوا ضحية خدعة سياسية ماكرة تم إعدادها بدقة.
هذه الظاهرة، التي تُوصف في الأوساط الأكاديمية بمصطلحات مثل "تصنيع القبول" (Manufactured Consent) أو "الموافقة المدفوعة بالخداع"، تُمارسها الحكومات الاستبدادية – وأحيانًا حتى الديمقراطية – عبر أدواتها الإعلامية والأمنية والثقافية، لتوجيه الرأي العام نحو قرارات كان سيرفضها بشدة لو طُرحت عليه مباشرة.
من التلاعب إلى التسليم: خطوات هندسة القبول
الأسلوب يتبع غالبًا نمطًا ثلاثيًا:
خلق أزمة أو السماح بتفاقمها.
رد فعل شعبي قوي يطالب بالحسم.
طرح "حل" جاهز، يُقدَّم بوصفه منقذًا، بينما هو في الحقيقة ما كانت تريده السلطة من البداية.
هذا التكتيك هو أحد تجليات الفكر الماكيافيلي، حيث الغاية تبرر الوسيلة، والسلطة هي القيمة الأعلى.
أمثلة ملموسة من الواقع السياسي
1. إسرائيل وغزة: من 7 أكتوبر إلى "شرعية" السيطرة
في 7 أكتوبر 2023، نفّذت حركة "حماس" هجومًا دمويًا على مستوطنات إسرائيلية، خلّف مئات القتلى والجرحى. الهجوم، بصرف النظر عن أسبابه وخلفياته، مثّل اللحظة الحرجة التي منحت الحكومة الإسرائيلية – بقيادة بنيامين نتنياهو – الغطاء الأخلاقي والسياسي لشنّ واحدة من أعنف الهجمات على قطاع غزة.
النتيجة بعد شهور من القصف والمعارك؟
– تفريغ واسع للقطاع من سكانه.
– سيطرة إسرائيلية فعلية ومباشرة على أجزاء واسعة من غزة.
– تراجع كبير في الدعم الدولي للفلسطينيين، نتيجة تشويه صورتهم إعلاميًا.
الهجوم إذًا، سواء بتخطيط محكم أو استغلال ذكي، أعطى لإسرائيل ما كانت تطمح إليه دون مقاومة كبيرة من المجتمع الدولي، بل وبموافقة ضمنية من قوى كبرى.
2. 11 سبتمبر 2001: تفويض أمريكي للاحتلال
الهجمات الإرهابية التي نفذها تنظيم القاعدة ضد الولايات المتحدة في 11 سبتمبر مثّلت لحظة صدمة عالمية. لكن بعد أيام فقط، كانت الإدارة الأمريكية – برئاسة جورج بوش الابن – قد أعدّت سردية كاملة عن "محور الشر"، وأسّست من خلالها لما عُرف لاحقًا بـ"الحرب على الإرهاب".
تم اجتياح أفغانستان ثم العراق.
صدّق الكونغرس الأمريكي على قوانين مثل "قانون باتريوت" (Patriot Act)، الذي قلّص الحريات الفردية داخل أمريكا نفسها.
الإعلام لعب دورًا كبيرًا في بث الرعب وتبرير كل تلك الخطوات.
هنا، نرى كيف تم توظيف أزمة حقيقية، لتحويل الرأي العام نحو خيارات لم يكن ليقبل بها لولا الشعور بالخطر.
3. انقلاب 1953 في إيران: الديمقراطية التي أُسقطت برضا البعض
في خمسينيات القرن الماضي، كان رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق يقود بلاده نحو استقلال اقتصادي من خلال تأميم النفط. لكن المصالح البريطانية والأمريكية اعتبرت ذلك تهديدًا مباشرًا.
– تم تنفيذ انقلاب استخباراتي (عملية أجاكس) بدعم من الـCIA والمخابرات البريطانية.
– نُفّذت حملة إعلامية داخلية ضخمة لتصوير مصدق على أنه خطر على البلاد.
– أُعيد الشاه إلى الحكم، وسط قبول شعبي خُدِع بدعاية متقنة.
مرة أخرى: استُخدم الرأي العام ضد مصلحته الحقيقية.
4. صعود هتلر: كيف تُخدع الديمقراطية؟
في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى، كانت البلاد تعاني من انهيار اقتصادي ومذلة وطنية. استغل أدولف هتلر تلك المشاعر، وقدّم نفسه من خلال حزب نازي يستخدم الخوف والفخر القومي والخطاب العاطفي ليكسب القبول الشعبي.
– تم انتخابه ديمقراطيًا.
– لكنه ما لبث أن دمّر الديمقراطية نفسها، وفرض حكمًا استبداديًا داميًا.
الناس أعطوه السلطة، لكنه استخدمها لسحقهم.
هل الوعي كافٍ لتفادي هذه الحيل؟
ربما لا يمكن وقف هذه الظواهر تمامًا، لكنها تصبح أضعف كلما زادت وعي الشعوب وإعلامها المستقل. فهم اللعبة السياسية وفك رموز الخطاب السلطوي هو الخطوة الأولى لكسر دائرة التلاعب.
السياسة الماكرة ستبقى، لكن الشعوب الذكية تتعلم أن القبول الظاهري لا يعني دائمًا الاختيار الحر.
الان وفي زمن تُصاغ فيه الحروب بالكلمات قبل السلاح، لا بد من طرح السؤال الصعب:
كم مرة تخلّينا عن حقوقنا، ونحن نُصفّق؟
وكم من "كارثة" كانت في الحقيقة، بابًا مفتوحًا لحلم قديم... كان يُراد لنا أن نفتح بابه بأيدينا؟